د. بثينة قريو
شهد التعليم تطوراً مستمراً لمواكبة احتياجات المجتمع المتغيرة. فبعد أن كان يركز على حفظ المعلومات ونقل المعرفة، أصبح اليوم يهتم بتطوير مهارات التفكير النقدي والتعلم الذاتي والتفاعل. ومن بين أكثر النماذج التعليمية ابتكاراً في هذا التحول يظهر الفصل الدراسي المقلوب، وهو أسلوب تعلم يتمحور حول الطالب ويعيد صياغة الطريقة التقليدية للتدريس. في جوهر هذا النموذج، يبرز سؤال تربوي أساسي: هل يحدث التعلم داخل الصف أم خارجه؟ ومن يقوده: المعلم أم المتعلم؟
في النمط التقليدي للتعليم، تتبع العملية التعليمية نمطًا مألوفًا: يقدم المعلم المحتوى عبر المحاضرات، ويستمع الطلاب ويدونون الملاحظات، ثم يراجعون المادة استعدادًا للاختبارات. يُعرف هذا النموذج بأنه تعليم متمركز حول المعلم، حيث يكون المعلم هو المصدر الأساسي للمعرفة. هذا النموذج يمتاز بعدة نقاط قوة: • يضمن تغطية المنهج الدراسي بالكامل. • يحافظ على الانضباط والنظام داخل الصف. • يسمح بتوصيل كميات كبيرة من المعلومات بكفاءة. لكن في المقابل، توجد له قيود واضحة: • يكون دور الطالب سلبيًا في الغالب، يقتصر على الاستماع والحفظ. • يركز على التذكر أكثر من الفهم والتطبيق. • يترك وقتًا محدودًا للتفاعل أو التفكير النقدي أو التعاون. وبينما يُعد هذا الأسلوب فعالًا في نقل المعرفة، إلا أنه لا يُعد الطلاب دائمًا لمواجهة التحديات المعقدة والمتغيرة في عالم اليوم.
الفصل الدراسي المقلوب: قلب نموذج التعليم التقليدي رأسا على عقب
يعيد الفصل الدراسي المقلوب (Flipped Classroom) ترتيب العملية التعليمية التقليدية. فبدلًا من تقديم المحتوى داخل الصف وممارسة الأنشطة في المنزل، يدرس الطلاب المواد التعليمية قبل الحصة — عادةً عبر فيديوهات مسجلة، أو قراءات رقمية، أو أنشطة تفاعلية. ثم يُخصص وقت الصف للتفاعل والنقاش وتطبيق المعرفة. بهذه الطريقة، يتحول دور المعلم من “ملقّن للمعلومة” إلى موجّه وميسر لعملية التعلم. يأتي الطلاب إلى الصف وهم مستعدون للمناقشة وحل المشكلات والمشاركة في أنشطة جماعية تعزز الفهم العميق.
السمات الأساسية للفصل المقلوب تشمل: • التعلم قبل الصف: يطّلع الطلاب على المحاضرات المسجلة أو القراءات أو الاختبارات القصيرة في وقتهم الخاص. • التفاعل داخل الصف: يُستخدم وقت الحصة في النقاشات والعمل الجماعي ودراسة الحالات والتطبيق العملي. • التغذية الراجعة المستمرة: يوجه المعلم الطلاب ويوضح المفاهيم بدلاً من الاكتفاء بتقديم المعلومات.

فوائد الفصل الدراسي المقلوب
أظهرت الأبحاث أن الفصل المقلوب يعزز بشكل ملحوظ تفاعل الطلاب، ودافعيتهم، وأدائهم الأكاديمي. فهو لا يساعدهم فقط على فهم المحتوى بعمق، بل ينمّي لديهم مهارات القرن الحادي والعشرين مثل التعلم الذاتي، والتواصل، والتعاون، والتفكير النقدي.
1- التعلم النشط: يصبح الطلاب شركاء في التعلم بدلاً من متلقين سلبيين، من خلال الاستكشاف والمشاركة. 2- المرونة وإمكانية الوصول: تتيح المواد الرقمية للطلاب التعلم في أي وقت ومن أي مكان، وإعادة مشاهدة المحتوى عند الحاجة. 3- الفهم العميق: يُخصص وقت الصف للتطبيق والتحليل والنقاش، مما يعزز الفهم الحقيقي بدلاً من الحفظ المؤقت. 4- التعاون والتفاعل: يشجع الفصل المقلوب العمل الجماعي وتبادل الأفكار، مما يقوّي مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي.
التحديات والاعتبارات حول استراتيجية الصف المقلوب
رغم فوائده الكبيرة، إلا أن تطبيق الفصل المقلوب يتطلب:
- • إعدادًا دقيقًا: يجب على المعلمين تصميم مواد جذابة وأنشطة صفية مدروسة.
- • دعمًا تقنيًا: يعتمد النموذج على توفر التكنولوجيا والمنصات التعليمية الموثوقة.
- • تحمّل الطلاب للمسؤولية: يحتاج الطلاب إلى الانضباط الذاتي لمتابعة التعلم قبل الحصة.
ومع ذلك، فإن هذه التحديات تمثل فرصًا لتعزيز استقلالية المتعلمين وتنمية مهاراتهم الرقمية.
دمج النموذج المقلوب مع أساليب التدريس الأخرى
لا يُقصد من الفصل المقلوب أن يحل محل الأساليب التقليدية بالكامل، بل يُفضل أن يُدمج معها لتحقيق التوازن. يمكن مثلًا استخدام الطريقة التقليدية لتقديم المعارف الأساسية، بينما يُخصَّص التعلم المقلوب لتطبيق المفاهيم وتحليلها وحل المشكلات. يمكن للمعلمين البدء بتطبيق الفكرة تدريجيًا من خلال قلب بعض الدروس أو الوحدات فقط، وتطويرها بناءً على ملاحظات الطلاب وتفاعلهم.
الخاتمة
يمثل الفصل الدراسي المقلوب تحولًا جوهريًا في التعليم من التلقين إلى المشاركة، ومن التحكم إلى التمكين. إنه يعكس رؤية جديدة للتعلم، تركز على الفضول والتفاعل والتفكير بدلاً من الحفظ والتكرار. من خلال إعادة التفكير في كيفية حدوث التعلم ومكانه، يمكن للمعلمين بناء بيئات تعليمية أكثر جاذبية وشمولًا وفاعلية. ففي عالم تتوفر فيه المعرفة في كل مكان، لم تعد قيمة التعليم في ما نتعلمه فقط، بل في كيف نتعلم.
أكتوبر 2025